السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أشكر كل من يهتم ويخصص وقته للإجابة على أسئلة الناس، جعل الله ذلك في ميزان حسناته وأسكنه جنات عدن.
سؤالي هو: أنا فتاة متعلمة وملتزمة ولله الحمد، أبلغ من العمر 23 سنة، تقدم لي خُطاب وأبي يرفضهم دون أن يأخذ رأيي، دائمًا أقول في نفسي لعله خير ولم يأت النصيب بعد، لكنني أتساءل: لماذا يرفض مَن هو على دين وخلق؟ يقول لأمي: لا أريد أن أزوج بناتي حتى أموت.. بعدها افعلوا ما شئتم، فهو يرفض أن أتزوج تمامًا، وأبي معاملته لنا قاسية فإذا طالبته بأبسط حقوقي كالذهاب إلى السوق، أو شراء بعض الأغراض، أتعرض للضرب منه ومن إخوتي، ولا أجد من يحميني منهم إذا تعرضت للإهانة أو الضرب بكل وحشية، وأعاني حياة قاسيه، فلا أجد الحب ولا العطف ولا الأسرة المتحابة، فأشعر وكأني يتيمة، بل اليتيم أفضل مني حالا فقد يجد الاهتمام والرعاية من دار الأيتام أو من بعض المحسنين، وكان آخر شاب تقدم لي على خلق ودين، ومستوى مادي جيد، وهو رجل كفء، ومع ذلك رفضه أبي كعادته بحجة أنه يريدني أن أكمل دراستي، علما أنني أكبر إخواني وأخواتي، وأنا لا أريد أن أضيع هذا الشاب، لأنه شخص خلوق وسمعته طيبة، وهو يريدني، وأنا ليس لي أقارب يكلمون والدي ويقنعونه، وأدعو الله دائمًا وأصلي آخر الليل عسى أن يكون فرج الله قريبًا، لكن ماذا علي فعله حتى لا يحرمني من حقي الشرعي في الزواج، ولا يتعدى علي بالضرب أنا وإخواني، فعلا أنا محتارة لا أعرف ماذا أفعل؟؟ وجزاكم الله كل خير.
الجواب:
أختي الكريمة: أشكرك على ثقتك بأهل الموقع وبإرشاداتهم السديدة، وبداية أقول: مما يؤسف له أنه شاع في كثير من المجتمعات اعتبار الولي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، هو من يحدد مصير الفتاة ومستقبلها، فلا قيمة لرغبتها ولا وزن لإرادتها، وهذا لا يتوافق مع عدالة شريعتنا، التي تحمُّل المكلَّف تبعات أقواله وأفعاله واختياراته، فلا تلزم أحدا أن يتحمَّلها عنه.
ولا أقصد بهذا أن في التشريع الإسلامي إلغاء لمبدأ الولاية في النكاح، إنما معناه أن ولاية الولي يجب أن تتوفر على شروط العدل والعدالة، ومعرفة الأحكام الشرعية حتى يدرك كل من الولي ومن تحت ولايته ماله وما عليه، فلا يطالب بما ليس له، وهذا ما صنعته الفتاة التي زوجها أبوها دون استشارتها فجاءت تشكو ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فتاة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته فجعل الأمر إليها. قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.
من هذا ندرك أنه ليس كل أب أو قريب للمرأة يصلح للولاية، بل من توفرت فيه مجموع الشروط المعتبرة، وأهمها أن يكون تصرفه نافعا للمرأة لا ضارا بها، وأن يختار لها الكفء، وإذا خطبها الرجل المناسب الذي رضيها ورضيته زوجا لا يمنعها بحجة أنه لا يريد تزويجها، أو لأسباب واهية ضد مصلحتها.
والذي أراه حلًّا لمشكلتك أيتها الأخت الكريمة:
أولا: حافظي بكل الأحوال على ثباتك، ودينك، وقيمك، وعلى أخلاق الفتاة المسلمة الملتزمة بأصول وفروع دينها، المحافظة على تقاليد وأعراف بلدها وأسرتها ومجتمعها فيما لم يخالف دينها، فلا تعرِّض نفسها ولا أهلها للمهانة وللذل، وللإساءة.
ثانيا: تجنَّبي حصول نـزاع بينك وبين والدك وإخوانك بسبب رفضهم تزويجك، أو ما يؤدي إلى نفورك من الحضن الأسري، وبغضك لوالدك وإخوانك وأسرتك المحيطة بك، لأنهم بكل الأحوال لهم فضل عليك وحقوق وواجبات، ومهما صدر منهم من إساءة أو قسوة أو جور فأنت فلذة كبدهم، يحبونك ويرجون لك الخير، فلا تردي الإساءة بمثلها، إنما ادفعيها بالتي هي أحسن مصداقا لقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، وقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 63- 64]، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]..
ثالثا: تذكَّري أن والدك يحبك وإن جار أو قسا عليك، ومعاملته الجافة هي نابعة من طبيعته وبيئته وتربيته، التي يغلب عليها الشدَّة في أسلوب الخطاب والتعامل، ولعلَّه لا ينتبه لرغبتك ورغبة أخواتك في الزواج، أو في التسوق والخروج لشراء بعض الأغراض، لأنه يندفع بحب وعاطفة الأبوة فيخاف عليكن، فتكون ردات أفعاله غاضبة، أو لأنه بتطلَّع لتحقيق غايات من رفضه تزويجكن هي لصالحكن، ولا يرغب في أن يفصح عنها، أو لعله يريد أن يؤمِّن حياتكن ومستقبلكن، عن طريق تعليمكن وحصول كل واحدة منكن على شهادات عليا، وهو يخشى لو استعجل بزواجكن أن يضعكن بأيدي غير أمينة عليكن، وبأيدي رجال تحرمكن من حقوقكن في العيش الكريم، بل ربما من وجهة نظره لم يتوفَّر في كل من خطبك شروط الزوج المناسب الذي يراه كفؤا لك، لأن لديه شروطا تخالف شروطك، فلهذا يحسم الموضوع بالتَّعسُّف والعضل.
رابعا: قد يكون والدك يظن أنه أعلم منك، وأكثر تجربة، ومعرفة بأحوال الرجال وما يصلح لك كزوج مما لا، فيتصرف لصالحك من تلقاء نفسه فلا يستشيرك، ولأن الكفاءة عنده بالزواج ليس تديُّن الرجل أو ظروفه المادية، إنما هي خصائص وصفات لم يجدها في كل من تقدم إليك خاطبا، وإن كنت تخالفينه الرأي أو ضد رغبتك.
خامسا: تقرَّبي لوالدك واكسري الحواجز بينكما، وحسِّسيه بحب البنت البارَّة بوالدها، التي تحترم وجوده وإرادته، ولا تخالف له أمرا، وتطيعه دائما وترضيه، واجلسي بين يديه وقبِّلي يديه، واشتكي إليه وتحدّثي معه عما يتعبك ويحزنك، واسأليه عن أسباب رفضه من غير أن تتخذي بينك وبينه واسطة، أو تملي عليه أوامر لينفذها، إنما اخفضي له جناح الذل من الرحمة كما أمرك الله، واظهري له رغبتك في الاقتران بهذا الشخص الذي تقدم لخطبتك مؤخرا، لأنك ترينه كفؤا لك في دينه وسلوكه، وأنه الشخص الذي ترينه مناسبا وقادرا على إسعادك، وأنك ترغبين أن يبارك هذا الزواج ويتمه برضاه، امتثالا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في دعوة أولياء الأمور للتعجيل بتزويج بناتهم وأبنائهم، وذكِّريه بالأحاديث التي تنص على تسهيل أمر الزواج بالمَرضي دينًا وخلقًا اتِّقاءً للفتن، التي يمكن أن تحصل إذا عسَّر الأولياء ظروف النكاح، أو اشترطوا شروطا معجزة على الراغبين فيه، ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». والحديث الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال له: «يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا».
سادسا: تقرّبي إلى إخوتك الذكور، وأحسني إليهم معروفًا، وادفعي أذاهم وقسوتهم وشدتهم بالحب والسَّماح والعفو، واكسبي مودتهم ومحبتهم بطرق مختلفة، وأرضيهم ليُرضوكِ، وأسعديهم ليسعدوك، وتودَّدي إليهم بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحلوة، والهدية الجميلة في مناسبات مختلفة، والمفاجأة السعيدة، وتجهيز أكلات طيبة أو حلوى أو مشروب يحبونه، وأسرعي بتلبية طلباتهم ورغباتهم قدر استطاعتك، وأشعريهم بحنانك ورحمتك بهم واحترامك لهم، فهذا سيساعدك من جهة على توثيق علاقتك بهم، ومن جهة أخرى تكسبينهم لصفّك، لإقناع والدك بالموافقة على زواجك.
سابعا: اطلبي مساعدة من تثقين بنزاهتهم وعدالتهم وعلمهم وحكمتهم، سواء من أحد أصدقاء والدك أو جيرانه أو من أحد علماء المنطقة التي تعيشين فيها ممن يحبهم ويحترمهم، ليحاوروه ويبينوا له الحق، ويقنعوه بأسلوبهم وعلمهم وحكمتهم بالموافقة على زواجك وزواج أخواتك.
وإذا أصرَّ والدك على الرفض ومنع زواجك منعًا نهائيًّا، فلك إما أن تصبري وتلحّي في الدعاء حتى يجعل الله لك مخرجًا ومن الضيق فرجًا قريبًا، فإن نفذ صبرك وأعيتكِِ حيلتك، ويئستِ من موافقته، وعدمتِ كل الحلول السلمية، ووجدتِ في نفسك رغبة ملحة على الزواج، وخشيت على نفسك الفتنة أو عزوف الخطاب عن خطبتك، لك أن ترفعي أمرك إلى القاضي وتستشيريه في مسألتك، فهو سيجد لك حلًّا مناسبًا، وهو بدوره سيقوم بدعوة أبيك ليعرف منه سبب رفضه، فإن لم يجد سببًا وجيهًا، وثبت عليه العضل أعطاك الإذن بالزواج، لأنه لا خلاف بين أهل العلم في أن رضا ولي المرأة وإن كان هو الأولى والأفضل، إلا أنهم اختلفوا في جعله شرطًا من شروط صحة العقد، وخصَّصوا حالة تحقُّق العضل والإضرار بالمرأة، فإذا دعت بالغة عاقلة إلى كفء، وامتنع الولي من تزويجها به، انتقلت الولاية من الولي الذي منعها إما إلى أقرب أوليائها إليها نسبًا على قول، وإما إلى القاضي على قول آخر، وللقاضي حينها أن يأمر الأب بأن يبين وجه امتناعه عن تزويج بنته، فإن لم يبد وجهًا صحيحًا مقبولًا، وكَّلَ من يعقد عليها إذا أصر على امتناعه، ولو كان الوكيل أجنبيًّا منها؛ استنادا لما أخرجه الدارقطني وابن حجر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل»، ومن الكتاب قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: من الآية 232]، وما حصل لمعقل بن يسار رضي الله عنه لما رفض تزويج أخته من رجل كان قد تزوجها ثم طلقها، قال معقل بن يسار: زوجت أختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتـها، جاء يخطبها فقلت له زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنـزل الله تعالى هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ}، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال فزوجها إياه.
و أختم هذه المسألة فأقول لأختي الكريمة ومن في حالتها: إن عقد الزواج من أهم العقود داخل مجتمعاتنا، لما يترتب عليه من إقامة أسرة جديدة هي نواة المجتمع، لهذا جعله الشارع متوقفًا على إرادة الرجل والمرأة ورضاهما، فلم يجعل للأب ولا لغيره على المرأة ولاية إجبار ولا إكراه في رفض تزويجها ممن تريد أو تزويجها بمن لا تريد، بل جعل لها الحق التام في قبول أو رفض من يتقدم لخطبتها، كما جعل الإسلام عقد الزواج قائما على المودة والرحمة، والألفة والمحبة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، ولا يمكن تحقيق تلك المقاصد الكريمة بزواج قائم على الإكراه والإجبار، ولا مخالفة الأهل في ذلك، وشرَّع الإسلام من الأحكام للمرأة ما يحفظ حقوقها ويدفع استغلال المستغلين عنها، فجعل لموافقة وليها على عقد زواجها اعتبارا هاما يتناسب مع أهمية هذا العقد، لما يعكسه من أثر طيب يخيم على الأسرة الجديدة ويبقى على وشائج القربى بين الفتاة وأوليائها، وصيانتها عن مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها وميلها إلى الرجال، وذلك ينافي حال أهل الصيانة والمروءة، وحفاظا على أعراض المسلمين من التهتك، وحتى لا تقع النساء والفتيات عديمات التجربة في فخاخ العابثين المتلاعبين بالأعراض، وهذا ما اختاره الدكتور سالم بن عبد الغني الرافعي في كتابه (أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في دار الغرب) قال: (والحقيقة أن جوهر الخلاف في هذه المسألة هو هل يجوز للمرأة أن تزوج نفسها من رجل بغير إذن وليها ولا موافقته؟ والجواب عندي أن الشريعة تأبى ذلك أشد الإباء، لأن المرأة سريعة الاغترار وقوية العاطفة وقد يجرها ذلك إلى الانخداع والوقوع في حبائل الماكرين وأهل السوء والدغل).
الكاتب: صفية الودغيري.
المصدر: موقع المسلم.